فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

مساءً 3 :46
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه. ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال: {له} أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب: {معقبات} جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. والأصل معتقبات فأدغمت، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضًا، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. والتأنيث للمبالغة نحو نسابة وعلامة، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة. وقوله: {من أمر الله} ليس من صلة الحفظ لأنه قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدًا من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل: له معقبات من أمر الله يحفظونه، أو له معقبات يحفظونه، ثم بين سبب الحفظ فقال: {من أمر الله} أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب. قال ابن جريج: هو مثل قوله تعالى: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وقيل: المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلاّ من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين.
وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة: إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة. وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعًا قويًا، وقد مر في هذا الباب كلام في الأنعام في قوله: {ويرسل عليكم حفظةً} فليتذكر: [الآية: 61]. وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس واختاره أبو مسلم الأصفهاني قال: المعقبات الحرس وأعوان الملوك، والجملة وهي قوله: {له معقبات} صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهرًا بالمعاونين والأنصار. والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم.
قالت الأشاعرة: في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقًا للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فلو كان العبد مستقلًا لحصل الإيمان وكان رادًا لقضاء الله تعالى. وقالت المعتزلة: هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير. قالوا: وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب. أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله: {ويستعجلونك} بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا: إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم. ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله: {ذلك بأن لله لم يك مغيرًا} [الآية: 53] الآية. والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادئ وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه.
قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضًا أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة.
وقيل: الآية في منكري الصانع، أي: إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لابد له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله: {أإذا كنا ترابًا أئنا لفى خلق جديد} وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من: {قولهم}، ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول، والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في {أإذا} ما يفيده قوله: {أإنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في قوله: {لَفِى خَلْقٍ} لتأكيد الإنكار بالبعث، وكذلك تكرير الهمزة في قوله: {أإنا}.
ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} أي: أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث: هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه، والثاني: {وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أعناقهم} الأغلال: جمع غلّ، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي: يغلون بها يوم القيامة، وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق.
والثالث: {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} السيئة: العقوبة المهلكة، والحسنة: العافية والسلامة.
قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدّة تصميمهم وتهالكهم على الكفر.
وقيل: معنى الآية: أنهم طلبوا العقوبة قبل الحسنة، وهي الإيمان: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات}.
قرأ الجمهور {مثُلات} بفتح الميم وضمّ المثلثة جمع مثلة كسمرة، وهي العقوبة.
قال ابن الأنباري: المثلة: العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه.
وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان المثلثة تخفيفًا لثقل الضمة، وفي لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعًا، واحدتها على لغتهم: مُثلة، بضم الميم وسكون المثلثة مثل غُرفة وغُرفات.
وحكي عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرأ هذا الحرف بضمها على لغة تميم.
والمعنى: أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون بهم، ويحذرون من حلول ما حلّ بهم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي: لذو تجاوز عظيم: {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك، ورجعوا إلى الله سبحانه، والجارّ والمجرور أي: على ظلمهم في محل نصب على الحال أي: حال كونهم ظالمين، و{على} بمعنى: مع أي: مع ظلمهم، وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير؛ لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبًا، ولهذا قيل: إنها في عصاة الموحدين خاصة.
وقيل: المراد بالمغفرة هنا: تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة.
وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية.
وهي: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب العصاة المكذبين من الكافرين عقابًا شديدًا على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ} أي: هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون للعذاب.
قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء.
انتهى.
وهذا مكابرة من الكفار وعناد، وإلاّ فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه، وجاء في: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد، وبيان ما يحذرون عاقبته، وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه، وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئًا مما يحصل به ذلك إلاّ أتى به وأوضحه وكرره، فجزاه الله عن أمته خيرًا.
{وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: نبيّ يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم.
وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم، فليس المراد من الآيات إلاّ الدلالة على النبوّة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها، ولا بأفراد معينة.
وقيل: إن المعنى: {ولكل قوم هاد}، وهو الله- عزّ وجلّ- فإنه القادر على ذلك، وليس على أنبيائه إلاّ مجرد الإنذار.
{الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته بالعلم سبحانه، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه، قيل: ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: ولكل قوم هاد وهو الله.
وجملة: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} تفسير لهاد على الوجه الأخير، وهذا بعيد جدًا، و{ما} موصولة، أي: يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة، أو مضغة، أو ذكر، أو أنثى، أو صبيح، أو قبيح، أو سعيد، أو شقي.
ويجوز أن تكون استفهامية، أيّ: يعلم أي شيء في بطنها، وعلى أيّ حال هو.
ويجوز أن تكون مصدرية أي: يعلم حملها: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} الغيض: النقص، أي: يعلم الذي تغيضه الأرحام، أي: تنقصه، ويعلم ما تزداده.
فقيل: المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص إصبع أو زيادتها.
وقيل: إن المراد نقص مدّة الحمل على تسعة أشهر، أو زيادتها، وقيل.
إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصًا في ولدها، وقيل: الغيض: ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، و{ما} في: {ما تغيض}: {وما تزداد} تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدّمة في: {ما تحمل كل أنثى}: {وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أي: كل شيء من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار، والمقدار: القدر الذي قدّره الله.
وهو معنى قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أي: كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه، لا يخرج عن ذلك شيء.
{عالم الغيب والشهادة} أي: عالم كل غائب عن الحسّ، وكل مشهود حاضر، أو كل معدوم وموجود ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعمّ من ذلك: {الكبير المتعال} أي: العظيم الذي كل شيء دونه، المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره.
ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها، بين أنه عالم بما يسرّونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ من أسرّ القول ومن جهر به} فهو يعلم ما أسرّه الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر، وقوله: {منكم} متعلق بسواء على معنى: يستوي منكم من أسرّ ومن جهر، أو سرّ من أسرّ وجهر من جهر: {ومن هو مستخف بالليل} أي: مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين.
يقال: خفي الشيء واستخفى أي: استتر وتوارى: {وَسَارِبٌ بالنهار} قال الكسائي: سرب يسرب سُربًا وسُروبًا إذا ذهب.
ومنه قول الشاعر:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ** ونحن خلعنا قيده فهو سارب

أي: ذهب.
وقال القتيبي: سارب بالنهار متصرّف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أسرب الماء.
قال الأصمعي حلّ سربه أي: طريقته.
وقال الزجاج: معنى الآية: الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعًا سوّى، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب، فالمستخفي: المستتر، والسارب البارز الظاهر.
{لَهُ معقبات} الضمير في {له} راجع إلى {من} في قوله: {من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف} أي: لكل من هؤلاء معقبات.
والمعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلًا منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين.
قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض، وإنما قال: معقبات مع كون الملائكة ذكورًا؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها: معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات: ذكر معناه الفراء، وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة.
قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء.
قال الله تعالى: {ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ} [النمل: 10] وقرئ {معاقيب} جمع معقب: {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: من بين يدي من له المعقبات، والمراد: أن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه.